سورة الحج - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 22/ 67- 70].
أخبر الله تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا، أي عبادة وشريعة، يتعبدون بها، ويسيرون على منهاجها، بحسب ظروف الزمان المكان، ومقتضيات التدرج والتطور، ونضج الفكر والعقل، فأنزل الله التوراة على موسى عليه السلام فيها لون من الشدة تتفق مع طبائع بني إسرائيل، ثم أنزل الله الإنجيل على عيسى عليه السلام لتخفيف حدة المادة والطقوس والشكليات وضرورة العناية بالجوهر والروحانيات، وإشاعة المحبة واللطف بين الناس، ثم أنزل الله القرآن الكريم جامعا بين منهج المادة والروح، منسجما مع العلم والعقل، واضعا كل ما يحقق تقدم الحضارة الإنسانية، فكان تشريع القرآن معتدلا، ووسطا بين الشرائع، وصالحا لكل زمان ومكان.
وإذا كان هذا هو شأن التدرج في الشرائع، فلا يصح لمعاصريك يا محمد أن ينازعوك في أمر الدين والكتاب والشريعة، فلكل أمة شريعة خاصة، تناسب الزمان الذي جاءت فيه، ولا تتأثر أو تنزعج أيها النبي بمنازعتهم لك، واثبت على دينك الحق ثباتا، لا يتزعزع ولا يلين.
وادع هؤلاء المنازعين والمسالمين، أي كل الناس إلى سبيل ربك ودينه الحق، فإنك على طريق واضح مستقيم، موصل إلى المقصود، وهو سعادة الدنيا والآخرة، كما جاء في آية أخرى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)} [القصص: 28/ 87].
وإن لم يصغ الناس إلى دعوتك الموحدة هذه، وجادلوك بالباطل، بعد أن ظهر الحق، فقل لهم على سبيل التهديد والوعيد: الله عليم بما تعملون وبما أعمل، ويجازي كل امرئ بما عمل، كما قال الله سبحانه في آية أخرى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)} [يونس: 10/ 41].
وقل لهم أيضا متوعدا ومحذّرا: الله يقضي بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة، فيما اختلفوا فيه من أمر العقيدة والدين، والقضاء مقدمة للجزاء الحاسم، المتردد بين الجنة والنار، والثواب والعقاب، الجنة والإثابة لمن قبل بدعوة القرآن، والنار والعذاب لمن رفض هذه الدعوة، وبه يتبين الحق من الباطل، والمحق من المبطل.
ثم أخبر الله تعالى عن كمال علمه بالمخلوقات والكائنات كلها قبل خلقها، وبما يستحقه كل من المحسن والمسيء، فلقد علمت أيها الرسول وكل مؤمن برسالتك أن علم الله محيط بجميع ما في السماء وما في الأرض، لا يغيب عنه مثقال ذرة فيهما، ويعلم بالكائنات قبل وجودها، وكل ذلك مسطّر مسجّل في اللوح المحفوظ، ففيه كل ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وشمول علم الله، وحكمه في الاختلاف بين الناس يسير سهل على الله تعالى، والسر في إيراد هذه الآية المتعلقة بسعة علم الله للإخبار بأن عند الله علم كل شيء، ليقع الحكم في معلوم معروف.
عبادة المشركين الأصنام:
لقد انحدر العقل البشري والفكر الإنساني انحدارا لا مثيل له، حين أقدم المشركون الوثنيون مع الأسف الشديد، على عبادة الأصنام والأوثان، على الرغم من قيام الأدلة الواضحة على وحدانية الله تعالى، وعلى القدرة الإلهية، وعلى علم الله الشامل المحيط بكل شيء، وعلى عدم وجود حجة مقبولة سمعية نقلية أو عقلية على صحة هذه العبادة الباطلة، وعلى ظهور الأدلة الحسية على أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع، فلم يبق هناك مجال إلا للحكم بأن أولئك الوثنيين أغبياء جهلة، سذّج وسطحيون، وهم مع كل هذا إذا تلي عليهم القرآن اغتاظوا وغضبوا، وهموا بالبطش بمن يتلو ويذكّر، وها هو القرآن المجيد يصف هذا النحو من سلوك المشركين الشاذ، قال الله تعالى:


{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)} [الحج: 22/ 71- 73].
هذه ألوان من أباطيل المشركين الدالة على جهلهم وكفرهم وسخفهم، فهم يعبدون آلهة من غير الله، ليس لهم دليل نقلي ولا عقلي على صحة عبادتها، والله سبحانه لم ينزل حجة ولا برهانا من السماء، يدل على إباحة عبادتها، وليس لديهم دليل عقلي مقبول يسوغ هذه العبادة، فيكونون ظالمي أنفسهم بتلك العبادة، وليس للظالمين ناصر ينصرهم، أو محام وكيل يدافع عنهم إذا نزل بهم العقاب أو العذاب.
- وإذا تليت على المشركين آيات القرآن، ودلائله الواضحة على توحيد الله، وعلى صدق رسله الكرام، ظهرت على وجوههم علامات الغيظ والغضب، وطفحت قلوبهم بالحقد والنفور.
إنهم يوشك أن يبطشوا بالذين يتلون عليهم آيات الله وسور القرآن، مما يشير إلى امتلاء قلوبهم بالكفر، وتسلط الجهل والعناد عليها، حتى صاروا ميئوسا من علاجهم، وعودتهم أصحاء الفكر والعقيدة.
قل أيها النبي محمد لهؤلاء المشركين على جهة التوعد والتقريع: أأخبركم بشرّ من ذلكم السطو على المؤمنين، وغيظكم الذي ملأ قلوبكم؟ وكأن قائلا قال له: وما هو؟ قال: النار، أي نار جهنم وعد الله بها الكافرين، فعذابها أشد وأعظم مما تهددون به المؤمنين في الدنيا، وبئس المصير، أي بئس النار موئلا ومقاما لكم، كما جاء في آية أخرى: {إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66)} [الفرقان: 25/ 66]. والمصير:
مفعل من «صار»: إذا تحول من حال إلى حال.
ثم ذكر الله تعالى مثلا يدل على حقيقة الأصنام وفساد عبادتها، وسخف عابديها، فخاطب جميع العالم بقوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} قاطبة، ضرب الله تعالى مثلا لهذه الأصنام، فاستمعوا لهذا المثل، وتفهموا حال تلك المعبودات، فإذا أدركتم حالها، وبقيتم على عبادتها، كنتم أسوأ منها. إن ما تعبدون من غير الله من الأصنام والأنداد، لن يقدروا على خلق أتفه شيء، ولو ذبابة واحدة أو بعوضة، حتى ولو اجتمع لهذه المهمة جميع تلك المعبودات وعابديها، وكما أنها عاجزة عن خلق ذبابة واحدة، فهي عاجزة عن مقاومة الذباب والانتصار منه، فإن يسلبها الذباب شيئا مما عليها من الطيب الذي كانوا يضمخون به أوثانهم، لم يقدروا على استنقاذه منها، علما بأن الذباب أضعف مخلوقات الله، لذا قال تعالى: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} أي عجز الطالب وهو الإله المعبود من دون الله، أي الصنم، من استنقاذ الشيء المسلوب من الذباب المطلوب، أو ضعف عابد الصنم والصنم المعبود.
وعلى أي من القولين دلّ ضعف الذباب المحسوس، وضعف الأصنام الملموس، على أن الأصنام في أحط رتبة، وأخسّ منزلة، ومن عبدها كان على شاكلتها، بل أسوأ منها، لأن كرامة الإنسان وارتقاءه أشرف من أن يذل لحجر أو معدن أو هيكل فارغ المحتوى والمعنى.
تعظيم الله وتوحيده واختياره:
الإله المالك الخالق الرازق المنعم المتفضل، يتطلب طبعا وعقلا الإقرار بعظمته، وتوحيده، وإفراد الأمر إليه في اختيار ما يشاء، وإرادة ما يريد، سواء في الإحياء والإماتة، أو الرزق والنعمة، أو إرسال الرسل، واختيار الملائكة، وإنزال الكتب، فهو العليم بالمصلحة، وإليه المرجع والمآب، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه. غير أن الناس إما في غفلة عن هذه الواجبات، أو في جحود وإنكار، فيكون القرآن العظيم هو الدواء الناجع لعلاج التقصير، والمذكّر بما يجب على الإنسان نحو ربه، قال الله تعالى واصفا أحوال الجاحدين:


{ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)} [الحج: 22/ 74- 76].
تتضمن الآيات المذكورة موضع الإلهيات والنبوات، أما الإلهيات: فإن الكفار يعبدون ما لا حجة لهم فيه ولا علم، فهم أي الكفار ما قدروا الله حق قدره، أي ما عرفوا حقيقة قدر الله وعظمته وجلاله، وما عظّموه حق التعظيم الواجب لذاته، حين عبدوا معه غيره، من الجمادات التي لا تعقل، ولا تمنع الضرر عن نفسها، ومن الأشخاص الذين هم بأشد الحاجة إلى من يعينهم على شؤون الحياة، والله وحده هو القوي القادر، الذي بقدرته خلق كل شيء، العزيز الذي عزّ كل شيء وقهره، فلا يغالب ولا يمانع، لعزته وعظمته، فهو الجدير بالعبادة والتعظيم.
ومن أجدر بذلك منه تعالى، فهو مصدر الوجود والخلق، ومصدر الخير والرزق والنعمة، والغني عن كل شيء، والقوي القاهر القادر على كل شيء.
ثم انتقل البيان القرآني من أوصاف الألوهية وما يجب لها، إلى أمور النبوة، فأفاد سبحانه أنه يختار من الملائكة رسلا لتبليغ الوحي إلى الأنبياء، ويختار من الناس رسلا لإبلاغ الرسالة إلى العباد، حسبما يشاء، وعلى وفق ما يريد، ويناسب الحكمة والمصلحة، كما قال الله تعالى في آية أخرى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} [الأنعام: 6/ 124].
وقد نزلت آية {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} حينما قال الوليد بن المغيرة: أو أنزل عليه الذكر من بيننا؟ فنزلت الآية.
وختمت الآية بتقرير بعض صفات الله عز وجل، وهي كونه تام السمع لأقوال عباده، وتام البصر والاطلاع على أحوالهم وأمورهم، وعليما كامل العلم والإحاطة بمن يستحق اختياره للرسالة، فقوله: {وَمِنَ النَّاسِ} هم الأنبياء المبعوثون لإصلاح الخلق، الذين اجتمعت لهم النبوة والرسالة.
إنه سبحانه يعلم علما تاما بأحوال الملائكة والرسل والمكلفين، ما مضى منها وما يأتي، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم، وقوله تعالى: {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} عبارة عن إحاطة علمه بهم، وحقيقتها: ما قبلهم من الحوادث وما بعدهم.
ويؤيدها آيات كثيرة في معناها، منها قوله سبحانه: {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً} إلى قوله: {وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن: 22/ 26- 28].
وختمت الآية بقوله سبحانه: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي وإليه يوم القيامة مرجع الأمور كلها، فلا أمر ولا نهي لأحد سواه.
وهذا تنبيه إلى القدرة التامة المهيمنة على كل شيء، وإلى تفرد الله سبحانه بالألوهية والحكم. وقوله سبحانه: {يَعْلَمُ} وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} يتضمن مجموعهما الزجر عن الإقدام على المعصية، وضرورة الإقبال على ساحة الطاعة والامتثال.
لقد آن للعقل البشري أن يستفيق من غيه، وللإرادة الإنسانية أن تعود سريعا إلى ما يدل على أقل واجبات الوفاء نحو الله جل جلاله، وإلى المبادرة بالقيام بالفرائض والطاعات، قبل أن تغرب شمس العمر الإنساني، ويفجأ الموت بشدته وجود الإنسان.
أصول الفرائض الإسلامية:
إن برهان الولاء للحق سبحانه: هو العبادة الخالصة لله، لذا أمر الله تعالى بعبادته، وجعل أصول العبادة متمثلة بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتصام بالله وبالقرآن، والجهاد في سبيل الله، وفعل الخير والمعروف. وهذه هي جملة الشرائع الإلهية المحققة للعبودية الشخصية لرب العزة، والمحافظة على عزة المؤمنين، وتقوية الصلات الاجتماعية فيما بينهم، ومسوغات هذه الواجبات كثيرة أهمها ثلاثة: هي اجتباء واختيار المسلمين لها، وكون هذه الشرائع هي شريعة إبراهيم عليه السلام، وتسميتنا مسلمين في القرآن الكريم والكتب السابقة، وهذا ما أوضحته الآيات التالية:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8